26‏/08‏/2011

عن" خمسه وعشرين عاما" لم تكتمل


إلى أخي""

.......

أراه يدخل من الباب يمتليء بالمرح

" لازالت أراه جالسا علي ذلك الفراش الذي كان ينام عليه بل وأراه ينظر لي بنصف عين مفتوحه

"ها أنا ذا أسمع خطواته وصعوده درج البيت في تؤده وإنتظام

كم أتمني أن أحدثه .

...........

هو طيب هذه فطرته

كان يمتلك قلباً أبيض

نقي السريره .

طيب !!

هذه كانت مشكلته

لم يكن يرد أحداً عن طلبه .. كان المال أرخص شيء لديه .

كل ما كان يتمناه أن يشعر بأن هناك أحداً بصدق يحبه .. حباً خالصاً .

لم يكن يحب أن يعرفه أي شخص لأي غرض سوى لشخصه .

هذا كل ما كان يتمناه من الدنيا

كان يريد أن يعيش في سلام.

كان يريد أن يأخذ دوره حياة جميع البشر

ويموت وربه راضيا عنه

فهو لم يكن يبخل بأي شيء يملكه طالما كان " لله "

كان هذا طبيعياً

كان هذا جل ما يتمناه

فهل كان يتمنى الكثير ؟

..........

لم يختلف كثيراً عن والدي كان هو ذلك الشخص الضحوك الساخر دائما

الذي ترى الهموم في مسام وجهه وفي خرائط قسماته .. يسخر من مرارة الحياه وأوجاعها

يسخر من كل شيء .. يسخر حتى من السخريه ذاتها ...

كنت تراهم فتشعر بأنهم كانوا في سباق طويل وصراع عظيم بينهم وبين الدنيا

عاش معهم وإستمر معهم ولم يتركهم إلا في نهايه عمرهم

رافقهم كصديق قديم حميم يأبى أن يترك صاحبه .. لا يفرقهم إلا الموت .

أذكر وجهيهما في نهايه الطريق ، كان هادئاً ساكناً وفي نفس اللحظه يرتسم علي وجوههم

ذلك التعبير الذي يوحي بالفراغ للتو من متاعب وأوجاع ممضه

ذلك التعبير الذي يعبر عن التخلص من كل ما مضى

تعبيراً يقول : أخيراً إنتهت كل الألام ، بل إنتهى كل شيء .

إنفعال يخفت شيئاً فشيئاً حتي يتحول إلى صفاء وإرتخاء وإسترخاء وإستسلام .

كمن كان يركض طويلاً لمسافات ميليه أو سنواتيه أو عمريه وإنتهى الأن !

وشعر بالراحه .

الراحه التي لم يشعر مثلها من قبل ، سكون لم يتذوقه بتلك العذوبه من قبل .

صفاء لم يراه إلا في أياماً معدودات يقل فيها الإزدحام المروري للطيور ووسائد السحب في السماء

تلك الزرقه التي تصطبغ بها الأعين من فرط صفائها ، أو ذلك السواد في ليل سرمدي يمتد هدوءه

وصفاءه إلى الروح ، فتفرغ النفس صخبها وزحامها وألمها وذكرياتها ذات الألوان الثنائيه

التي تومض بلونيها الأبيض والأسود إلى ذلك الليل السرمدي .

وينتقل هذا الصفاء الليلي إلى النفس في تبادل وتدفق وإمتزاج لا نهائي .. لامنتهي .

إنها الراحه الأبديه !

هذا هو ما أقصده عندما أرغب في نوماً هادئا لايشوبه شيء .. ولا يقطعه شيء .

راحه أبديه .. سكون سرمدي .. صفاء بلا إنقطاع .

..............

.......

...

..

.

ترك ساعته .. وترك نظارته السوداء .. ترك ملابسه التي لم يرتديها بعد .

هجر فراشه .. ترك حتي النقود التي كان يحسده الناس عليها .

ترك أصدقائه .. ترك أهله ..ترك ذكراه وشذاه ...

لم يترك شيئاً سوى ألما في قلوب من أحبوه .

وذكري تمر هنا وهناك لترينا نقشه في كل مكان حطت به قدمه .

وفراغاً غير مرحب به

وليال تُروى بالدموع والحديث عنه

وأم تصبر نفسها بأن هذا لم يحدث إلا في خيالها .

ترك كل هذا .. القاه خلفه .. وذهب لوالده الذي طالما أحبه .

ليكون كل واحد منا في ناحيه !

أنا في ضفه الحياه مع أمي .. وهو في الضفه الأخرى مع والدي .

هكذا يمكن أن تتعادل الكفتين .. بعض التوازن الإلاهي لا يضر .

ترك كل شيء ، ولم يبقى شيء .

ومازال الناس يظلمون .. أفلا يعقلون !

مازالت الدنيا براقه في أعينهم ويكثرون فيها الفساد .. أفلا يسمعون !

مازالوا يعتبرون الموت زائراً يخطئهم دائما وأن العمر مازال أمامهم .. أفلا يبصرون !!!

..........

في ذلك الفِناء أقف وحيداً كنقطه في ورقة بيضاء ، أو كهدف عسكري بدا صغيراً من بُعد كبير

أو كنمله يراها الإنسان من أعلاه ، أو كشخص أخر يراه من ناطحه سحاب .

أشعر بالفراغ .. أشعر بالفَناء والخواء .

ليس هناك أحد هنا سواى ، أستطيع أن أصرخ حتي أفرغ الألم المختزن في جوف قلبي

وفي أحشاء روحي ، أستطيع أن أفني حنجرتي صراخاً ، أستطيع أن أفني عيناي دمعاً ونحيبا ً

وأفني جسدي حزنا .. نعم أستطيع الأن فعل ذلك فكل شيء علي ما يرام .

...........

إنه الغسق والهواء يتسكع من حولي ، والتراب ينفجر كلما سرت عليه كبرعم سقطت عليه نقطه مياه فتعكر ما بداخله

وثار مكنونه ، أو كسحابه ضبابيه تعلن عن حنقها .

تذكرت أني جئت إلى هنا للعظه .. جئت لتهدأ نفسي بعض الشيء

جئت لأنسي سذاجه البشر وسقطاتهم وإنزلاقهم في الدنيا ، نعم كي أنسى حماقتهم ودنائتهم التي لا تنتهي .

والظلم الذي يفعلونه ولا يقبلونه !!!

جئت كي أحتفل معه بعامه الخامس والعشرين .. وهو ليس هنا ليحتفل به.

الأن إنتقلت بعض سكينه المكان إلى نفسي وإرتشفت بعض الصفاء .

وسوف أعود مره أخرى لملاقاه ذلك العالم الذي طالما شعرت أني لا أنتمي اليه .. عالم الحياه .

...

إن إنتهت أعمارنا في الدنيا .. فلنا بعد الدنيا عمراً أخر نكمله .

ربما في عوالم أخرى سوف نحيا أعماراً وأعماراً .. ولن تكون خمسه وعشرين عاماً لم تكتمل .

عزيزي :

أنت لم ترد إلا السلام .. فالسلام عليك يوم ولدت .. ويوم مت .. ويوم القاك في عالم أخر حيا

كل عام وأنت ترقد بسلام .

20/8/2011